فصل: تفسير الآية رقم (69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (48- 50):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [48- 50].
{وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي: السابقة عليها: {وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} أي: الدنيوي كالسنين، مما يلجئ إلى الرجوع، ولا أقل من رجائه: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي: من أنه لا يعذّب من آمن بك ليكشف عنا العذاب: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي: بما تزعم أنه الهداية: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي: العهد الذي عاهدوا عليه، ويتمادون في غيهم.

.تفسير الآيات (51- 53):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهّبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [51- 53].
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} يعني أنهار النيل: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} أي: ما أنا فيه من النعيم والخير، وما فيه موسى من الفقر: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} أي: ضعيف لا شيء له من الملك، والأموال: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} أي: الكلام، لمخالفة اللغة العبرانية اللغة القبطية: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهّبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} أي: يعينونه ويصدقونه.

.تفسير الآيات (54- 55):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [54- 55].
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} أي: فاستفزهم بهذه المغالطات، وحملهم على أن يخفّوا له ويصدقوه: {فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا} أي: أغضبونا بطاعة عدونا وقبول مغالطاته بلا دليل، وتكذيب موسى وآياته، وندائه بالساحر، ونكث العهود: {انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} وذلك لاستغراقهم في بحر الضلال، الأجيال الطوال، وعدم نفع العظة معهم بحال من الأحوال.

.تفسير الآيات (56- 58):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [56- 58].
{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} أي: حجة للهالكين بعدهم: {وَمَثَلاً} أي: عبرة: {لِلْآخِرِينَ} أي: الناجين: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} أي: في كونه كآدم، كما أشارت له آية: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عِمْرَان: 59]، والمعنى: لما بين وصفه الحق من أنه عبد مخلوق منعم عليه بالنبوة، عبادته كفر، ودعاؤه شرك، إذ لم يأذن الله بعبادة غيره: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ} أي: من مثله المضروب ووصفه المبين: {يَصِدُّونَ} أي: يعرضون، ولا يعون: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعنون بآلهتهم الملائكة الذين عبدوهم، زعماً منهم أنهم بنات الله تعالى، كما ذكر عنهم ذلك في أول السورة. أي: أنهم خير من عيسى وأفضل، لأنهم من الملأ الأعلى والنوع الأسمى، فإذا جازت عبادة المفضول وهو عيسى، فبالأولى عبادة الأفضل وهم الملائكة. كأنهم يقرون على شركهم أصولاً صحيحة، ويبنون على تمسكهم أقيسة صريحة، وغفلوا، لجهلهم، عن بطلان المقيس والمقيس عليه، وأن البرهان الصادع قام على بطلان عبادة غيره تعالى، وعلى استحالة التوالد في ذاته العلية.
وإذا اتضح الهدى فما وراءه إلا الضلال، والمشاغبة بالجدال. كما قال تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً} أي: ما ضربوا لك هذا القول إلا لأجل الجدل والخصومة، لا عن اعتقاد، لظهور بطلانه: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي: شديد والخصومة بالباطل تمويهاً وتلبيساً. وفي الحديث «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» وما ذكرناه في تفسير هذه الآية، هو الجلي الواضح، لدلالة السياق والسباق فقابل بينه وبين ما حكاه الغير وأنصف.
ثم جلى شأن عيسى عليه السلام، بما يرفع كل لبس، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (59):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [59].
{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي: بالنبوة والرسالة: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: آية لهم وحجة عليهم، بما ظهر على يديه، مما أيّد نبوته، ورسالته، وصدق دعواه.

.تفسير الآية رقم (60):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [60].
{وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم} أي: بدلكم: {مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} أي: يكونون مكانكم. إيعاد لهم بأنهم في قبضة المشيئة في إهلاكهم، وإبدال من هو خير منهم. كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقيل معنى: {لَجَعَلْنَا مِنكُم} لولدنا منكم ملائكة، كما ولدنا عيسى من غير أب، لتعرفوا تميزنا بالقدرة. واللفظ الكريم يحتمله، إلا أن الأظهر هو الأول، لما جرت به عادة التنزيل، من خواتم أمثال ما تقدم، بنظائر هذا الوعيد، والله أعلم.
وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (61- 62):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [61- 62].
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} الضمير إما للقرآن كما ذهب إليه قوم، أي: وإن القرآن الكريم يعلم بالساعة ويخبر عنها وهن أهوالها، وفي جعله عين العلم، مبالغة. والعلم بمعنى العلامة. وقيل الضمير لعيسى عليه السلام. أي: إن ظهوره من أشراط الساعة. ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا. وقال يعضهم: معناه أن عيسى سبب للعلم بها. فإنه هو ومعجزاته من أعظم الدلائل على إمكان البعث. فالآية مجاز مرسل علاقته المسببية؛ إذ أطلق المسبب وهو العلم، وأراد السبب وهو عيسى ومعجزاته. كقولك: أمطرت السماء نباتاً، أي: مطراً يتسبب عنه النبات.
وقرئ: {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِّلسَّاعَةِ} بفتحتين. أي: أنه كالجبل الذي يهتدي به إلى معرفة الطريق ونحوه، فبعيسى عليه السلام يهتدي إلى طريقة إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها. انتهى. وهو جيد: {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ} أي: اتبعوا هداي، أو شرعي، أو رسولي، أو هو أمر للرسول أن يقوله: {هَذَا} أي: القرآن، أو ما أدعوكم إليه: {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أي: عن الاتباع: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.

.تفسير الآيات (63- 64):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [63- 64].
{وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي من أحكام التوراة وغيرها. كاختلاف اليهود في القيامة، لعدم صراحتها في كتبهم. وقد جاء في نحوها آية: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عِمْرَان: 50]، وقد وضع عن اليهود شيئاً من إصْر التوراة، وأغلال الناموس، كما فعل في يوم السبت، خففت شدّة حكمه.
قال يعض المحققين: وإنما لم يقل: ولأبين لكم كل ما تختلفون فيه؛ لأنه لم يفعل ذلك. بل ترك بيان كثير من الأشياء، كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم للفارقليط- محمد صلى الله عليه وسلم- الذي يأتي بعده، لعدم استعداد الناس في زمنه لقبول كل شيء منه. كما قال هو نفسه في: إنجيل يوحنا، في الإصحاح السادس عشر، وخصوصاً إذا تعرض للطعن في كتبهم، وهي رأس مالهم الوحيد وتراث أجدادهم، ولو فعل ذلك لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون، فتضيع الفائدة من بعثته التي بيناها في المتن، وهي التي بعث من أجلها.
وأما قول الله تعالى عن لسانه: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عِمْرَان: 50]، فالمراد بمثل هذا التعبير، أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه، وبه صحت وصدقت. وكلمة التوراة، تطلق على كتاب العهد القديم، فالمعنى أن مجيء عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل. ولولاه لما صدقت تلك النبوات، فإنها لا تنطبق إلا عليه. وليس المراد أن عيسى يقرّ كل ما في التوراة، كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية. وإلا لما قال بعدها مباشرة: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عِمْرَان: 50]، فكيف يقرّها وهو قد جاء ناسخاً لبعض ما فيها؟ فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويفسرون ما لا يفهمون. انتهى كلامه. وهو وجيه جدًّا.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} قال ابن جرير: أي: إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له، ربي وربكم جميعاً. فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئاً. فإنه لا يصح ولا ينبغي أن يعبد شيء سواه.
{هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي: هذا الذي أمرتكم به، من اتقاء الله وطاعتي، وإفراد الله بالألوهية، هو الطريق القويم. وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام، فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله. ثم أشار إلى وعيد من خالف الحق بعد وضوحه، بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (65):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [65].
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ} أي: الفرق المتحزبة اختلافاً نشأ: {مِن بَيْنِهِمْ} أي: لا من قوله تعالى، ولا من قول عيسى. بل ظلماً وعناداً: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي: مؤلم من شدة الأهوال، وكثرة الفضائح، وظلمهم بترك النظر في الدلائل العقلية والنقلية.

.تفسير الآيات (66- 67):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [66- 67].
{هَلْ يَنظُرُونَ} أي: قريش: {إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ} أي: المتخالون على المعاصي والفساد، والصد عن الحق يوم القيامة: {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي: معاد، يتبرأ كل من صاحبه: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} أي: المتصادقين في طاعة الله ومحبته. قال القاشاني: الخلة إما أن تكون خيرية، أوْ لا. والخيرية إما أن تكون في الله أو لله ومحبته. وغير الخيرية إما أن يكون سببها اللذة النفسانية أو النفع العقلي.
والقسم الأول هو المحبة الروحانية الذاتية المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل، التي قال فيها «فما تعارف منها ائتلف» فهم إذا برزوا في هذه النشأة، وتوجهوا إلى الحق، وتجددوا عن مواد الرجس، فلما تلاقوا تعارفوا، وإذا تعارفوا تحابوا، لتجانسهم الأصلي، وتوافقهم في الوجهة والطريقة، وتشابههم في السيرة والغريزة، وتجردهم عن الأغراض الفاسدة والأعراض الذاتية، التي هي سبب العداوة. وانتفع كل منهم بالآخر في سلوكه وعرفانه. والتذ بلقائه، وتصفى بصفائه، وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة. فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبداً كمحبة الأنبياء، والأصفياء، والأولياء، والشهداء.
والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف، والأخلاق، والسير الفاضلة، ونشأته الاعتقادات، والأعمال الصالحة. كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم، ومحبة العرفاء والأولياء إياهم. ومحبة الأنبياء أممهم.
والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية، والأعراض الجزئية. كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة، ومحبة الفجار، والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات، واستلاب الأموال.
والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش، وتيسير المصالح الدنيوية، كمحبة التجار والصناع، ومحبة المحسَن إليه للمحسِن. فكل ما استند إلى غرض فانٍ، وسبب زائل، زال بزواله، وانقلب عند فقدانه عداوة. لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه، من اللذة المعهودة، والنفع المألوف، وامتناعه لزوال سببه، ولما كان الغالب على أهل العلم أحد القسمين الأخيرين، أطلق الكلام، وقال: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} لانقطاع أسباب الوصلة بينهم، وانتفاء الآلات البدنية عنهم، وامتناع حصول اللذة الحسية، والنفع الجسماني، وانقلابهما حسرات وآلاماً وضرراً وخسراناً. قد زالت اللذات والشهوات، وبقيت العقوبات والتبعات، فكل يمقت صاحبه ويبغضه؛ لأنه يرى ما به من العذاب، منه وبسببه.
ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقلتهم، كما لقال: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، ولعمري، إن القسم الأول أعز من الكبريت الأحمر. وهم الكاملون في التقوى، البالغون إلى نهايتها، الفائزون بجميع مراتبها. ويليهم القسم الثاني، وكلا القسمين، لاشتراكهما في طلب مرضاة الله، وطلب ثوابه، واجتناب سخطه، وعقابه، نسبهم سبحانه إلى نفسه بقوله:

.تفسير الآية رقم (68):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [68].
{يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: لأمنهم من العذاب: {وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} أي: على فوات لذات الدنيا؛ لكونهم على ألذّ منها وأبهج، وأحسن حالاً وأجمل.

.تفسير الآية رقم (69):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [69].
{الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا} أي: صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم: {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} أي: أهل خضوع لله بقلوبهم، وقبول منهم لما جاءتهم به رسولهم عن ربهم، على دين إبراهيم عليه السلام، حنفاء، لا يهود، ولا نصارى، ولا أهل أوثان.

.تفسير الآية رقم (70):

القول في تأويل قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [70].
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} أي: تسرون سروراً يظهر حباره، أي: أثره على وجوهكم، كقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24].